الإنسان.. بين طبيعته والتصّنع

   عندما تتروى وتستقر وتنظر إلى واقع المشهد من خلال صيرورة الحياة. وسيرورة الإنسان وكينونته، وتغيراتها المستمرة... تخرج من عقلك الواعي إلى عقلك اللاواعي حيث الخبرات المكبوتة التي تأسرها قدراتك المحكومة بمعايير الثقة الكامنة في النفس.

   هنا تحضر علامات تعجب كثيرة إزاء ازدواجية الإنسان وطبيعته المتناقضة، وواقعه المؤلم وفكره البائس. فهذا الكائن الضعيف الجبار تجده في بعض المواقف كالغريق الذي يخيل له أن القش الذي يتقرب إليه هو طوق النجاة، وتجده في مواقف أخرى كالطاووس، أنفه إلى السماء، يعيش حالة من الزهو المفرط. يتجمل، يضخم مناقبه وبطولاته التي لا يراها سواه.

   هناك كثيرون من الناس الذين يعانون من عدم مقدرتهم على تقبل واقعهم فيميل أحدهم عبثاً إلى التمثيل الهزيل على الصورة ظاناً أنه يغير من واقعه الذي يأسره. ومنهم من يجد نفسه في موقع ليس له فيحاول جدلاً محاكاة واقع لا يتوافق مع طبيعته، فقد وجدها في المكان الخطأ، وبدلاً من أن يبادر هو بمصارحة نفسه والوقوف أمام جنوح الرغبات تجده يكابر، ويتقمص أدواراً ليست له ولا تتوافق مع طبيعته، محاكياً مشية الغراب.

   العجيب أن هذا الكائن تعلم وجرب وشاهد الكيفية التي أسرت الطبيعة الإنسانية على مر التاريخ، وعلى مدى قدم الإنسان نفسه، وأن البشرية أو المجتمع، أو حتى الجماعة أو أهل الحي وأهل القرية جميعهم يدركون أنهم لم يتفقوا يوماً على رأي، ولم نسمع أو نقرأ أنهم اتفقوا يوماً على محبة رجل واحد أو اتفقوا على صفاته وطباعه.

   إذاً، لماذا كل هذا الجهد من أجل استرقاق القلوب واستعطاف النفوس؟ لماذا كل هذا السعي للحصول على ثناء الناس عليك؟ يا أخي دعهم، فأنت في منافسة خاسرة لأنك ستتعب كثيراً في هذا الطريق، فإذا كان المرء مستقراً في دواخله، متوافقاً مع حياته، مسيطراً على رغباته وواثقاً من نفسه فلا ينتظر أن تقدم له كهدية مغلفة بورق الشيفون، ولن يستمدها من الخارج إن لم يستخرجها من ذاته... وسيطول به المقام وهو ينتظر.

   الأكيد أن كثيرين من هؤلاء هم بيننا. إنهم أُناس رائعون جداً يعيشون حياتهم بوضوحٍ تام، لا تأخذهم الأمور إلى مسافات بعيدة من الإسفاف والتعسف. منهم من إذا ساءه أمر ما يبادر بكل ثقة لتبيانه بكل وضوح لأنه لن يجامل نفسه بل تحتم عليه ثقافته الفكرية أن يقف ويتروى ويبحث عن استقراره ليستطيع رؤية المشهد على حقيقته ويقف إزاءه على أرض صلبة تمكنه من إتخاذ قراره الصائب لتستمر حياته على طبيعتها، متكيفاً ومتناغماً مع متغيراتها المستمرة، مبتعداً عن التظاهر الممجوج وخديعة المكابرة وتلبس رداء الغير.

طالب فداع الشريم

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية المعرفة عند الفارابي

الإنسان المقذوف .. !

معادلة الأنا .. ألآخر