نظرية المعرفة عند الفارابي
نظرية المعرفة عند الفارابي
د. طالب فدّاع الشريم
المعرفة الحسية، المعرفة العقلية، المعرفة الإشراقية.. النظرية.
الفارابي
المعرفة الحسية
بيد أن المعرفة حسب رأي الفارابي لا تحصل هكذا بالإنسان من خلال إدراك مباشر للحس بالمحسوسات، وإنما هناك قوى نفسية متعددة تتدخل بغية إتمامها وإكمالها. ولكن هذه القوى رغم تعددها إلا أنها تتفاوت في وظيفتها بحسب الكائن. فإن إدراك الجزئيات بصورها المادية تكون مشتركة بين الإنسان والحيوان. غير إن الإنسان يمتاز فيها بالنزوع نحو التفكير. ولهذه القوى جانبين أثنين: ظاهري وباطني، الأول بخص الحواس الخمسة، والثاني يخص الحس المشترك كالخيال والوهم والذاكرة.
إن قوى الإدراك هي أدوات المعرفة، فالمخيلة تحفظ صور المحسوسات التي يؤديها الحس المشترك، رغم غياب الحس عنها. حيث تعمل المخيلة في فصل بعض الصور المحفوظة عندها، أو تقوم بتركيب صوراً إلى بعضها، ولذلك يكون في المنام أحلام. لأن الإحساس يحاكي قوة الخيال. فإذا أحس جسم النائم بالرطوبة مثلاً، فإن الحلم يكون عن المياه أو السباحة أو وفق ما يتعلق بذلك الشيء. وكلما كانت هذه العوارض في المخيلة ذات قوة وسيطرة على الواقع فإن الأشياء المتخيلة تكون أكثر واقعية. وكذلك القول عن الوهم الذي يدرك فيه الكائن الحي ما لا يُحسَ. كما في إدراك النعجة مثلاً، حيث تحس إن الذئب عدوها فتهرب منه من غير أن يكون لها تجربة أولية تعي فيه هذا الخطر. ولكنها تُحسَ ما لا يُحسَ بمعناه. أما الذاكرة فهي خازنة الوهم وحافظة صور الأشياء.
وعليه فإن المعرفة الحسية لا يمكن لها أن تتم إلا عبر "وسائط" حيث تبدأ الحواس بالمحسوسات فتنتزع صورها، وتحصل في هذه العملية تعاقبات متوالية تقوم بها القوة المتخيلة، حيث تجري على الصور تهذيباً لكي تنقيها من علائقها الشائبة فيها بغية وصولها إلى مرتبة العقل.
يتبع أسفل التضمين أدناه
المعرفة العقلية
المعرفة الإشراقية
ما يتعلق بالنظرية
إذا كانت نظرية المعرفة عند الفارابي
موزعة ومتداخلة في بعض نظرياته عن: النفس، الفيض، النبوة، التصوف. فإنه من المفيد
هنا أن نتناول الجوانب التي تتعلق صلتها بتلك النظريات. ففي كتاب "السياسة
المدنية" مثلاً إذا أخذنا المعرفة الحسية فإن صلتها تكون في قوى النفس وفق
ثلاثة أنواع هي: نباتية وحيوانية وإنسانية. الأولى لها قوى ثلاثة هي: غاذية
ومنمًية ومولدًة. أما الثانية فتنقسم إلى محركة ومدركة، لكل منها ضربين أثنين:
فالمحركة (أو النزوعية) إما أن تكون شهوانية أو غضبية. بينما المدركة إما أن تكون
بالحواس الخمس الظاهرة: البصر، السمع، اللمس، الشم، الذوق. أو الباطنة وهي: الحس
المشترك، المصورَة، الواهمة، الحافظة، المتخيلة. والثالثة فإنها تتعلق بالمعرفة
العقلية. حيث أن القوى الإنسانية إنما ترتكز على القوة الناطقة أو العقل. وهي
تنقسم إلى نوعين: عملية ونظرية. فالعقل العملي يعرف الإنسان ما شأنه أن يعمله
بإرادته. والعملية منها مهنية ومروية. الأولى هي التي بها تحاز الصناعات والمهن.
والأخرى هي التي يكون بها الفكر والروية في شيء مما ينبغي أن يُعَمل أو لا يُعمَل.
أما العقل النظري فهو الذي به يحوز الإنسان علم ما ليس شأنه أن يعمله إنسان أصلاً.
ولقد خصص الفارابي في رسالته "في
معاني النفس" شرحاً مسهباً عن معاني العقل الذي قسمه إلى أربع مراتب هي:
العقل بالقوة، العقل بالفعل، العقل المستفاد، العقل الفعَال.
بالاختصار إن العقل الإنساني عندما
يتصل بالعقل الفعَال يتحول الإدراك الحسي إلى إدراك عقلي. ولكن ما يتلقاه العقل
الإنساني من العقل الفعَال، فإن هذا العقل يتلقى بدوره من العقل الذي يعلوه مرتبة،
وهكذا تصاعدياً حتى الانتهاء إلى العقل الإلهي مصدر كل شيء. وهذا الصدور أو الفيض
الإلهي حسب نظرية الفارابي يكون العقل الفعَال فيه في مرتبة العقل السماوي العاشر
الذي يشكل الوجود الحادي عشر بين الموجودات الكونية. فمن الوجود الأول (الله) يفيض
وجود ثاني هو عقل أول يلزم عنه وجود ثالث هو عقل ثاني، وهكذا نزولاً إلى العقل
الفعَال الذي هو المسؤول عما دون فلك القمر، عالمنا الأرضي الأسفل. فمن العقل
الفعَال تفيض النفوس البشرية والمعارف العقلية والإشراقية.