نظرية المعرفة عند الفارابي

 

نظرية المعرفة عند الفارابي

 د. طالب فدّاع الشريم                                                 

المعرفة الحسية، المعرفة العقلية، المعرفة الإشراقية.. النظرية.


الفارابي

     رغم إن أبو نصر الفارابي (870-950) لم يضع نظرية خاصة ومستقلة في المعرفة الإنسانية كما فعل في بعض نظرياته التي تخص السياسة والتصوف والموسيقى والماوراء وغيرها. إلا أن أفكاره في نظرية المعرفة جاءت منثورة التوزيع بين طيات مؤلفاته وذلك من خلال معالجاته وتشخيصاته إلى النفس وقواها من ناحية. وإلى العلوم العقلية والإلهية من ناحية أخرى. وهنا نود أن نتعقب أقوال الفارابي المتفرقة في هذا المضمار محاولين جهد المستطاع إلى تبيان عناصر هذه النظرية.

 

المعرفة الحسية

بنص الفارابي في: "كتاب الجمع بين رأي الحكيمين" على إن المعرفة التي تحصل عليها النفس البشرية تكون عن طريق الحس. فالحواس هي إدراك الجزئيات، ومنها تحصل الكليات التي هي التجارب على الحقيقة. وليس العقل شيئاً غير التجارب، وكلما كانت هذه التجارب أكثر كانت النفس أتم عقلاً.
بيد أن المعرفة حسب رأي الفارابي لا تحصل هكذا بالإنسان من خلال إدراك مباشر للحس بالمحسوسات، وإنما هناك قوى نفسية متعددة تتدخل بغية إتمامها وإكمالها. ولكن هذه القوى رغم تعددها إلا أنها تتفاوت في وظيفتها بحسب الكائن. فإن إدراك الجزئيات بصورها المادية تكون مشتركة بين الإنسان والحيوان. غير إن الإنسان يمتاز فيها بالنزوع نحو التفكير. ولهذه القوى جانبين أثنين: ظاهري وباطني، الأول بخص الحواس الخمسة، والثاني يخص الحس المشترك كالخيال والوهم والذاكرة.
إن قوى الإدراك هي أدوات المعرفة، فالمخيلة تحفظ صور المحسوسات التي يؤديها الحس المشترك، رغم غياب الحس عنها. حيث تعمل المخيلة في فصل بعض الصور المحفوظة عندها، أو تقوم بتركيب صوراً إلى بعضها، ولذلك يكون في المنام أحلام. لأن الإحساس يحاكي قوة الخيال. فإذا أحس جسم النائم بالرطوبة مثلاً، فإن الحلم يكون عن المياه أو السباحة أو وفق ما يتعلق بذلك الشيء. وكلما كانت هذه العوارض في المخيلة ذات قوة وسيطرة على الواقع فإن الأشياء المتخيلة تكون أكثر واقعية. وكذلك القول عن الوهم الذي يدرك فيه الكائن الحي ما لا يُحسَ. كما في إدراك النعجة مثلاً، حيث تحس إن الذئب عدوها فتهرب منه من غير أن يكون لها تجربة أولية تعي فيه هذا الخطر. ولكنها تُحسَ ما لا يُحسَ بمعناه. أما الذاكرة فهي خازنة الوهم وحافظة صور الأشياء.
وعليه فإن المعرفة الحسية لا يمكن لها أن تتم إلا عبر "وسائط" حيث تبدأ الحواس بالمحسوسات فتنتزع صورها، وتحصل في هذه العملية تعاقبات متوالية تقوم بها القوة المتخيلة، حيث تجري على الصور تهذيباً لكي تنقيها من علائقها الشائبة فيها بغية وصولها إلى مرتبة العقل.

يتبع أسفل التضمين أدناه






المعرفة العقلية

وهذه المعرفة تخص الإنسان وحده ولا أحد يملكها سواه. حيث يدرك بالعقل التجريدات الخالصة أو المعاني الكلية مثل: الله، الملائكة، الروح، الرياضيات، الهندسة وغيرها. ولهذا العقل ثلاث درجات وضحها الفارابي في كتابه: "السياسة المدنية" وهي:

أ- العقل الهيولاني: وهو العقل المنفعل أو العقل بالقوة. فإذا ما أدرك صور الأجسام في الخارج صار عقلاً بالفعل. حيث يكون فارغاً من المعلومات. إلا أنه يتقبل المعلومات كلها، كما وأنه يحتفظ بصور الموجودات وفقاً لماهياتها وليس لمادياتها إذ يجرد الموجودات وينزع عنها آليتها محتفظاً بمعانيها المجردة فقط.
ب- العقل بالفعل: وهو يكون بعد حصول صور الموجودات، حيث يدرك المعقولات بعد انتقاله من وضع الفعل، وذلك بواسطة المعرفة المكتسبة: المعقولات التي كانت بالقوة تصبح بعد انتزاعها معقولات بالفعل. وهذه الصور أو المعقولات ليست كالأشياء خاضعة للأين والمتى والوضع والكيف والكم والفعل والإنفعال، بل هي مجردة عن المادة. وهذا لا يعني أن العقل هو غير المعقولات بل هما شيء واحد تماماً. كالشمعة المشتعلة يُنقش فيها النقش على السطح وفي أعماقها في آن واحد، والسطح والعمق منصهران تماماً كالعقل والمعقولات.
ولكن عملية هذا الانتقال من القوة إلى الفعل لا تكون بفعل الإنسان حسب تصور الفارابي في كتابه: "آراء أهل المدينة الفاضلة". وإنما بتأثير عقل آخر هو دائماً بالفعل ويكون أعلى من مرتبة العقل الإنساني. ألا وهو العقل الفعَال، عقل فلك القمر.
ت- العقل المستفاد: وهو العقل الذي أصبح بالفعل يدرك المعقولات كلها. وقد أكتسبها في نفسه من حيث صورها المجردة لا مادياتها. وان: الإنسان الذي أستكمل عقله المنفعل بالمعقولات كلها، صار عقلاً بالفعل، ومعقولاً بالفعل. وصار المعقول منه هو الذي يُعقل، عندها يحصل له عقل هو فوق رتبة العقل المنفعل، وهذا العقل هو أرقى من العقل المنفعل وأكثر كمالاً، وأكثر ابتعاداً عن المادة واقتراباً من العقل الفعَال.

المعرفة الإشراقية

عندما يصبح عقل الإنسان عقلاً مستفاداً، ولا يعود بينه وبين العقل الفعَال مسافة تفصل بينهما، فإن الحقائق التي تتجلى من العقل الفعَال كونه واهب الصور حيث يفيض منه كإشراقات تتنزل على من أستطاع أن يتحرر من قيود المادة ويرتفع إلى مرتبة الكائنات السماوية. وإذا حصل ذلك لإنسان ما كان الذي يوحى إليه بواسطة العقل الفعَال هو الله تعالى. لأن الله الذي يفيض منه إلى العقل الفعَال فإن الأخير يعود ويفيضه إلى العقل المنفعل لهذا الإنسان. وبالتالي يصبح هذا الإنسان فيلسوفاً. أما ما يفيضه العقل المستفاد إلى مخيلته فإنه يصبح نبياً منذراً بما سيكون ومخبراً بما هو الآن من الجزئيات. وهذا الإنسان هو في أكمل مراتب الإنسانية وفي أعلى درجات السعادة وهو يدرك المعقولات أو الكائنات العلوية "البريئة من الأجسام" وفق حالتها الراقية والشريفة حيث يراها بدون حجاب.
إذن فإن نظرية المعرفة عند الفارابي ترتكز على أعمدة ثلاث هي: حسية وعقلية وإشراقية. ولقد جعلها وفق درجات متفاوتة ومختلفة بحسب قدرات البشر عند قربهم أو بُعدهم من العقل الفعال والاستغراق فيه. فهناك الناس العاديين ثم الحكماء والعلماء ثم أعلاهم شأناً الأنبياء.

 

ما يتعلق بالنظرية

إذا كانت نظرية المعرفة عند الفارابي موزعة ومتداخلة في بعض نظرياته عن: النفس، الفيض، النبوة، التصوف. فإنه من المفيد هنا أن نتناول الجوانب التي تتعلق صلتها بتلك النظريات. ففي كتاب "السياسة المدنية" مثلاً إذا أخذنا المعرفة الحسية فإن صلتها تكون في قوى النفس وفق ثلاثة أنواع هي: نباتية وحيوانية وإنسانية. الأولى لها قوى ثلاثة هي: غاذية ومنمًية ومولدًة. أما الثانية فتنقسم إلى محركة ومدركة، لكل منها ضربين أثنين: فالمحركة (أو النزوعية) إما أن تكون شهوانية أو غضبية. بينما المدركة إما أن تكون بالحواس الخمس الظاهرة: البصر، السمع، اللمس، الشم، الذوق. أو الباطنة وهي: الحس المشترك، المصورَة، الواهمة، الحافظة، المتخيلة. والثالثة فإنها تتعلق بالمعرفة العقلية. حيث أن القوى الإنسانية إنما ترتكز على القوة الناطقة أو العقل. وهي تنقسم إلى نوعين: عملية ونظرية. فالعقل العملي يعرف الإنسان ما شأنه أن يعمله بإرادته. والعملية منها مهنية ومروية. الأولى هي التي بها تحاز الصناعات والمهن. والأخرى هي التي يكون بها الفكر والروية في شيء مما ينبغي أن يُعَمل أو لا يُعمَل. أما العقل النظري فهو الذي به يحوز الإنسان علم ما ليس شأنه أن يعمله إنسان أصلاً.

ولقد خصص الفارابي في رسالته "في معاني النفس" شرحاً مسهباً عن معاني العقل الذي قسمه إلى أربع مراتب هي: العقل بالقوة، العقل بالفعل، العقل المستفاد، العقل الفعَال.

بالاختصار إن العقل الإنساني عندما يتصل بالعقل الفعَال يتحول الإدراك الحسي إلى إدراك عقلي. ولكن ما يتلقاه العقل الإنساني من العقل الفعَال، فإن هذا العقل يتلقى بدوره من العقل الذي يعلوه مرتبة، وهكذا تصاعدياً حتى الانتهاء إلى العقل الإلهي مصدر كل شيء. وهذا الصدور أو الفيض الإلهي حسب نظرية الفارابي يكون العقل الفعَال فيه في مرتبة العقل السماوي العاشر الذي يشكل الوجود الحادي عشر بين الموجودات الكونية. فمن الوجود الأول (الله) يفيض وجود ثاني هو عقل أول يلزم عنه وجود ثالث هو عقل ثاني، وهكذا نزولاً إلى العقل الفعَال الذي هو المسؤول عما دون فلك القمر، عالمنا الأرضي الأسفل. فمن العقل الفعَال تفيض النفوس البشرية والمعارف العقلية والإشراقية.


المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الإنسان المقذوف .. !

معادلة الأنا .. ألآخر