الإنسان المقذوف .. !

 

الإنسان المقذوف .. !

    يعيش هذا الناطق حياته باعتبارها المحور الذي تدور حوله جل الاهتمامات في بيئته، متطلعا إلى صناعة مشروعية وجوده إزاء الآخر، ولكن هذه النقلة نحو التفكير بهذا الآخر تكبله دون وعي، وتجعله أسيرا لتقلبات قناعات لا تمثله.. محولا أناه قسرا من ذاتيتها المتأصلة إلى موضوعات مرتهنة في يد موازية.. ومنتقلا من جوهره الوجودي إلى الوجود العرضي، ليضيف إلى سرب المألوف المتكثر، والآمن بقوة أثره، وتأثير جمهرته، رقما جديدا في كتلة الجمود المتوارثة، التي تميل إلى تكرار أفعالها بلا بصيرة، فيتمدد التأثير الجمعي على حدود تفكيره، ويبني على عقله أسوارا من ضبابية الرؤية حتى يُدجّن ويألف حياتهم، و يخلص في محاكاة مظاهرهم، في حلبة التثوير!
    ولأن أكثرهم يعمهون، فإن القليل من يدرك أن المنطق الأعوج أحكامه مضللة، وأغلب التجريد هو نوع من التهيؤات، وأن أول عتبات الوعي في الاتجاه نحو الذات الخالصة بملكاتها، وإحياء مقومات تفردها، للخروج من قهر التماثل المطلق.. حينئذ تبدأ رحلته النوعية التي تصنعها هذه الذات الوليدة، بخطواتها المتأخرة من لحظة قرار عودتها لحجرها حتى تفكيك أغلال ما كان محظورا..
    هنا يلتقي هذا الإنسان المقذوف بذاته المتشظية، فيستأنف لم شتاته، وترتيب أولويات بقاءه ما بين زائف وأصيل، وإعادة توجيه طاقته التي استنزفت فيما لا طائل منه، منتقلا من ميادين السائد إلى الأوساط التي تليق بفرادته المستقلة، وإرادته الحرة.
    إن الكائنات الحية غير الناطقة بتنوعها واختلافها شكلا تتفق وتتشابه مضمونا، إذ تكبر وتتكاثر وتموت فحسب.. تلك هي رسالتها في الحياة تنجزها كما هي وتذهب، لذلك أكثر الناطقين لا يقاوم مشقة الترقي والسمو كرسالة، فيستسهل الهبوط المتاح واليسير متمثلا بذلك سلوك الفرقة غير الناطقة، لأن عجينته مكونة من خليط معقد بين تراب وماء، ونار وهواء، فلا غرابة من تفشي التوحش البشري، وانحطاطه، وسفالته، وغدره، وإفساده في الأرض.. قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ). فمن فضله تعالى ورحمته أن يدفع بالأقلية الصالحة بإزاء الأكثرية المفسدة.
    فليس كل ناطق مكلف، إلا من ملك خاصية إدراك ميزة التكليف، وتأمل المعقولات والمحسوسات، وعرف سرائر عوالمه الثلاث: عالمه في ذاته.. وعالم الأشياء في موضوعاتها.. وعالم الفكر في مفارقاته.. وقدم ثمن الصبر بتملك كل أفعاله، وأقواله، وفصل المختلف، وجمع المتشابه.. والوعي الخاص بالمظاهر المحيطة، وإن وصل لمراحل متقدمة فقد ينفذ إلى إدراك ماهية الموجودات.. من منطلق أهليته، وأصالة وجوده، فيصنع قراره وهو متجرد من كل قيود .. محققا شروط أناه وتفرده واكتفاءه في وسط يغلب عليه الاستكمال بكل مفارق عنه وطارئ.



طالب فداع الشريم
taleb1423@

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية المعرفة عند الفارابي

معادلة الأنا .. ألآخر