التخطي إلى المحتوى الرئيسي

طريخم ومدن الطوب

طريخم ومدن الطوب

د. طالب الشريم

جريدة الرياض

  السبت 25 ذو الحجة 1438هـ - 16 سبتمبر 2017م - 25 برج السنبلة


طريخم شاب بدوي يفك الخط، متزوج من بنت عمه سلمى وعضيدته في تسيير أمور الأسرة، ميسور الحال، يعيش في صحراء نجد، قضى شبابه مصاحبا لحلاله من إبل وغنم، يملك طريخم أهم مكسبين في حياته.. الأول ثقة والديه فيه كرجل عليه معتمد، وتطرب مسامعه عندما يقولانها عنه في غيابه فقط! والمكسب الثاني ابنته سحاب.. ويمتلك من التقدير الذاتي الشيء الكثير، ولديه اكتفاء يزيد عن الحاجة اقتصادياً وعاطفياً، فقد أغناه الله عن الناس ولا حاجة له عند أحد، فالثروة متوفرة، ولديه سكن متكيف مع القيظ الحار وهبوب البرد القارس.
في حياة أبي سحاب ثمة نزغات، آخرها الفكرة التي لم تنفك عن رأسه، تداهمه كلما وجدته في حين خلوه، حتى ضاقت عليه البيد الشاسعة، فأودت به لزيارة بريدة المتمدنة جدا بالنسبة له، والمعقدة في نظامها وبيروقراطيتها، وسرعة الحياة فيها.
دار في رأس طريخم الكثير من الصور، والأحداث التي سمع عنها نزرا. فأراد أن يبيع بضعاً من ماشيته، خضوعا للفكرة المجنونة الكابسة على مخيلته الحرة، وعزم على الرحيل من الغد.. لم ينم تلك الليلة مسامراً النجوم، وإن ذهب إلى فراشه من بعد الغياب.. ومع الغبش نهض من فراشة ووجد سلمى أمام حزمة الحطب الوقادة.. لمح حاجبيها على ضوء النار معقودين بشدة وتحت مقلتيها لمعة دمُيعات لم تجف بعد.. علم ما فيها من وجل فتظاهر بالهدوء!.. أشاحت إليه بنصف طرف وقبل أن تُكمل التفاتتها التقطت صحن الريوق، وإبريق الماء وقطعة قماش تجفيف.. ووضعت حملها أمامه دون أن تنبس ببنت شفه، وقامت بالواجب المعتاد منها تجاهه والبيت، تربع طريخم على الصحن وقطّع رغفان الخبز مجاملة لمشقتها.. حمد الله قبل أن يستقيم واقفا بخطوات مسرعة، خارجا لئلا تلتقي عيناه عينيها.
ركب طريخم الجيب الشاص محملا بما تحتمله سعة الحوض من بهائمه، منطلقا في مغامرة السرعة عبر الكثبان الرملية المهيبة، إذ لا يريد أن يترك لخياله المنفلت مجالا للسيطرة عليه.. فلجأ يسابق الريح على صوت مهلي حشاس والربابة:
البدو شدو من المقطان..
تفرقوا وأخلوا العدي
يابو جديل على الأمتان..
بيحت يا زين بك سدي
تاركا خلفه أعمدة الغبار والمشاعر المتصارعة بين الثورة والأمان.. وصل أطراف بريدة وباع ماشيته على عجل ووضع المال في درج الجيب الشاص.. وبدأت مغامرته في المدينة المتمدنة.. كان حريصا على التزام مساره في الطريق، رابطاً حزام الأمان، معطيا للآخرين حقهم في المرور، لكنه أحس أنه من القلة الذين يفعلون ما يفعل، أراد طريخم أن يستأجر شقة مفروشة حتى يستريح ثم يتهندم ويواكب المتمدنين، ولأنه حريص على النظام المروري لم يشأ أن يركن الجيب الشاص في أي مكان، لكنه تفاجأ بفوضى المواقف أمام الشقق المتراصة، إذ وجد أن كل مركبة آخذة مكان مركبتين، ولا يوجد التزام تام بالخطوط المرسومة على الأرض، واستمر في البحث وسط عبث مروري وصخب مزامير، توقع أن يجد أُناسا مختلفين عنه، متحضرين في كل شيء، لكن ظنونه خابت، فاضطر أن يركن الشاص بجوار جيب اللكزس الذي امتطى نصفه صهوة الرصيف الخاص بمرور المشاة، فقفز طريخم بالأشهب على كامل الرصيف.. وهو يتمتم في نفسه، (مجتمع لا يعرف الفرد الواحد فيه كيف يقف في حدود مكانه الخاص لا يستحق أن نحترم أفعالنا من أجله)، حجز غرفة في شقة رائحة بهائمه أرحم من الروائح المنبعثة من أثاثها، طلب طعاما يسد به جوعه، وأكل منه على مضض وهو يتحسر على طعام أم سحاب، قرر أن يستريح قليلا، لكنه لم ينم، وبلا تفكير عزم على العودة بعد أن يتبضع لسحاب وكل العائلة والجيران الذين ينتظرون غنائمه، وقبل أن يدفع ثمن الغرفة بادر عامل الاستقبال بسؤال لماذا كل هذه الفوضى في المواقف؟ فأجابه العامل يبدو أنك لا تعرف ديار العرب! فانصرف.. وفي السوق وجد فوضى وقوف المركبات أكثر، مذكرة إياه مشاهد أنعامه وهي راتعة في فياض الرمث، دس الجيب الشاص فوق أحد الخطوط المرسومة عبثا على الأرض، وصرف ما في جيبه من مال على ما قل وزنه وزاد ثمنه.. وعاد إلى مرابع الأحباب لا يلوي له عنق على المشاهد البشرية الفوضوية التي لا تختلف عن سلوك بهائمه وإن تمدنت بالطوب فحسب!

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية المعرفة عند الفارابي

الإنسان المقذوف .. !

معادلة الأنا .. ألآخر