«المعرفة» وكتّاب الرأي والسيف





كتب خالد السيف، في صحيفة «الشرق» مقالاً استعرض من خلاله كتّاب الرأي في الصحافة السعودية.. وعنونه بـ «دُلّوني على: «كاتبِ رَأي» في صِحافتِنَا»، كناية عن ندرتهم في هذا المجال.. وقال واصفاً الحال الذي هم عليه: «أن يقتاتَ على: «موائدِ العوامِ» فَيَصنعونَ لهُ رؤيتَهُ حيالَ أيّ مُستجدٍّ، ثُمّ لا يلبث أنّ يُعيدَ لهم مُنتَجَ ثرثرتِهم ثانيةً في هذه الصحيفةِ أو في تلك»، وأضاف: هو أندرُ من: «الكبريت الأحمرِ»، ويظهر لي أن المؤشر لديه اتّجه إلى فئتين فقط، وهذا من وجهة نظري حصرٌ مخلٌّ بغض النظر عن النوعية التي يراد عرضها.. لأن «الرأي» كمصطلح يتضمن عديدا من العناوين العريضة.. هناك رأي الشارع، رأي المنظمات، رأي موجّه، رأي فردي، رأي مبتسر أو متحيز، رأي مسبق، رأي نظيف، رأي قانوني.. ورأي عام.. وهكذا.. هذا إذا فصلنا المصطلح عن المقصود لديه.


وعليه فإن رأيي في هذا.. أن الكاتب السيف قد بيّن ظاهرة جلية تنحو باتجاه تكرار قول الشارع.. متقاطعةً مع المراسلين.. بمعنى إعادة الخبر بصيغة تتحكم فيها مفردات منمّقة أكثر مما ذكره ناقل الخبر.. وقد أجاد السيف، عندما ذكر في سياق المقالة أن هؤلاء ينحون باتجاه إعادة حديث الناس للناس.. أما الفئة الثانية التي توجّه بالعملة، فليس لي فيها دلو ولا ماعون.


ما أود تبيانه أن كتابة المقال في صحافتنا أصبحت عند «البعض» تكرارا مبتسرا.. بعيدا عن قالب «المعرفة» وسواقيها.. فما تجده في هذه الصحيفة تجده في أخرى بسياق مختلف ومضمون واحد.. ولا غرابة في ذلك عندما تصبح الكتابة لملء المساحة.. ومواكبة الزمن المحسوب على الكاتب اليومي بالذات.. حتى أصبح أحدهم كجهاز صراف جاهز لإعادة الرصيد المدّخر لصاحبه.. حسب ما يمتلك من وفرة، وملاءة أو ضيق ذات اليد.. وبالتالي يكون المخُرج من الكتابة هو إعادة المكتوب قبله، والمقول الشائع في الشارع، ولكن بصياغة جديدة فحسب.. والقبض آخر الشهر.. بمعنى أنها كمهنة العامل بأجرٍ، ولا اعتراض، ولكن الواقع هنا يكون كتحليق كائن حي في مساحة محكمة الإغلاق، خالية من الضوء والهواء.. معزولة عن الفضاء.. واستمراء اجترار القضايا في نطاق «آنْ» لا يتجاوز الأعراض الظاهرة إلى «كَنَه» المشكل.. فإذا لم تضف الكتابة مساحات وعي، فكرا.. وإبداعا.. وحلولا مبتكرة.. ومضامين جديدة.. تزيد من تراكم المعرفة.. وتطول ما خلف المحسوسات، وأن لا ترتهن بقيود العزف على الوجدانيات الشعبية.. بأوتارٍ أول حبالها بيد ناقل الخبر ونهايتها بيد الكاتب.. إذ يؤديان هنا نفس المهمة.. الأول يحرث الأرض.. والثاني يرويها.. والمحصول من نفس البذرة.. فإذا أردنا أن تكون لدينا مساقات من الكتابة لها رؤى أوسع من ذاك النطاق الضيق فلا بد من التأصيل الذي يضيف للمعنى متانة.. وعلى أسس متدرجة على نحو مقصود.. ومن ثم يتم تطويع الموضوع، ويحدد بسياقاته المباشرة وذيوله اللاحقة.. وهذا يحتاج تدرجا واعيا، مبنيا على تفكيكٍ وتأليفٍ يندرج تحت فصل البدايات عن النهايات والمسافة بينهما من إدراك وتجارب إنسانية معاشة.. حتى لا تتداخل الذات وأحكامها المسبقة مع استقلالية الموضوع محل النظر عن رأي الرائي.. ولتبسيط ٍأكثر هناك ذات يقابلها موضوع وبينهما مسافة من الإدارك الإنساني.. كل تلك المراحل تبدأ منفصلة وتلتئم في نهايته.


نعم لنقل الأخبار التي تمس مصالح الناس، كسقوط عمود إنارة «مثلاً» يتم نقلها عن طريق المراسلين المنتشرين، وجميل أن يكتب فيه كاتب ما.. لكن لا يجب أن تكون هي السائدة في نوعية المقال الصحفي، لأن حدوث تلك الوقائع كانت بسبب أعراضٍ لقضايا سابقة عليها.. تحتاج لمَن ينفذ إلى ذواتها، وبرؤيةٍ مبنية على تأصيل، يسبر طبيعة مدخلاتها حتى نهاية ظهورها. إنها كلٌّ لا يتجزأ.. وبالتالي تكون قنوات زيادة الوعي الجمعي مستمدة من تطور المعرفة الإنسانية المتينة التي تتشكل عليها الثقافة العامة.. حتى تتحول إلى سلوك عام، ولا تكون قضايانا وقتية، ومنفصلة.



طالب فداع الشريم

taleb1423@

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية المعرفة عند الفارابي

الإنسان المقذوف .. !

معادلة الأنا .. ألآخر