غربة وطن..


   كان موطناً للنور، صعد الهامات الشاهقه، خضعت له الصعاب ودنت حتى انقادة طائعةً لعزمه، تمكنت قناديله من وضع أسس الحضارات الموجهة للبشرية، فقد عُرف بكثرة مشاعل الترقي بين الأمم، رسالة ونهضة، ريادة وسياده، فتوحات وعلوم.
 
   وبتتالي القرون وتتابع السنن الكونية في التغيير أصابته سياسات القهقري، إنه الوطن العربي الكبير الذي تفلتت حبال رسالته العظيمة، وتحول مؤشره إلى نحوٍ أدنى، حيث ملذات البدن وأسره، وتكبيل العقول وخضوعها للبرازح الظلماتيه، فتهدل صوته المجلجل بأسى الحاضر المضطرب، وتحول فيض محياه بالخيرية إلى بؤساً.. ومسار العزة والرفعة إلى اقتفاء أثر الآخر، تابعاً له، صاغراً لنقيضه، خادماً لِأيدولوجياته وإن تعارضت مع مصالحه، فلم يعد له من الحاضر إلا شجرة مكتوب على جذعها المعطل رموز نهضته بمداد ينضح به ألم الحسرة على تراثه العظيم الذي تحول لخدمة النقل فحسب!
 
   غربة وطن.. من المحيط الأطلسي غرباً إلى بحر العرب والخليج العربي شرقاً، الذي فقد أراض احتلت أو أصبحت ضمن بلدان مجاورة مثل فلسطين وهضبة الجولان وإقليم الأحواز (عربستان) الذي احتلته إيران عام 1925، ولواء اسكندرون والأقاليم السورية الشمالية التي سلمتها فرنسا إلى تركيا وجزر الكناري وسبتة ومليلية وصخرة الحسيمة (تحت الاستعمار الإسباني) والجزر الإماراتية (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى) المحتلة من إيران، كما يطالب الصومال بإقليم أوغادين الذي تحتله أثيوبيا.
 
   وقد قارن الطبيب الأمريكي ‏المؤرخ فيكتور روبنسون بين الحالة الصحية ‏وغيرها في الأندلس وفي أوروبا خلال فترة الفتح ‏الإسلامي للأندلس فقال:‏‎"‎‏ كانت أوروبا في ظلام ‏حالك، في حين كانت قرطبة تضيئها المصابيح، ‏وكانت أوروبا غارقة في الوحل، في حين كانت ‏قرطبة مرصوفة الشوارع‎"‎‏. وإننا لنلمس فضل المسلمين وعظيم أثر ‏مجدهم حينما نرى بأسبانيا الأراضي المهجورة التي ‏كانت أيام المسلمين جنات تجري من تحتها الأنهار، ‏فحينما نذكر تلك البلاد التي كانت في عصور ‏العرب تموج بالعلم والعلماء، نشعر بالركود العام ‏بعد الرفعة والازدهار.‏
 
   ذلك شذرا يسير ومثلاً بسيط عن وطناً دانت له المعموره بظهور حضارته العربية والإسلامية فقامت مؤسساته وعلومه من غربي الصين إلى جنوب فرنسا بغرب أوربا وبالسند في وسط آسيا وفيما وراء نهري جيجون وسيحون فأصبح اليوم خاضعاً لا يفرق بين الوجوه،  فقد اختلطت عليه الصنائع وتكالبت عليه الأمم بالذرائع، وفقد ثقته بمن خرج من صلبه وتغذى برحمه، وعاد غريباً يتلمس عتمة هويته، فاليغير الله ما بأنفس القوم أو ليستبدلهم بأقوام غيرهم يعودون بوطنهم إلى مسار نهضته بإحياء مشروعه الإسلامي للناس كافة، ثم لا يكونوا أمثالهم.
 
 
طالب فداع الشريم
taleb1423@hotmail.com

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية المعرفة عند الفارابي

الإنسان المقذوف .. !

معادلة الأنا .. ألآخر