أ. ب. الاشتراكية.. وحرية السندباد


   في ليلة هادئة، استمتع فيها بخطأ الصبي الذي ساقه القدر أن يحمل رداء العمل لمنظف الملابس.. ويتركه في لحظة دهشة عند ساعة النوم.. حيث اكتشف فيها خلو شمعة التعليق من مكانه المعتاد الذي يسكنه كظله منذ ٢٢ عام..
   بعد هول الموقف.. قرر أن يتجاهل تبعات هذا النسيان، وأوقف التفكير بالغد.. وأن يستمتع بخطئه الذي حمّله الصبي.. فهرول مسرعاً.. ليختلس سويعات السحر.. في حديقة مملكته.. التي غرس شجيراتها ونسقّها من بحر خياله.. بدون الاستعانة هذه المرة بمشورة الأصدقاء.. فلم يُرِد قِصار الخُطى أليها.. هب مسرعاً.. لأنه يعلم أن صديق السحر ينتظره بقدر شوقه إليه.. وبقدر همسات نسيم ليل قريته الحدودية، فهي طليعة الشمال، ورأس حربة الوطن في هذا الجزء، كالسهم الملتهب.. كالسحابة تسعة.. عندما كان يمطر خصوم المستديرة بجلد، وأدب لا يضاهى..

   استقبله صديقه بحروفه المؤدبة، والأديبة، وقبل أن تحين لحظة الارتماء في أتون المقدمات، ورصف الديباجات، أنطلق به سحره، ففتح له صدره.. وحمله حيث فضاءات الحرف.. وخيالات السمو..
  
وبدأت المغامرة في أقاصي خلايا العقل.. وأعمق جينات عصيبات المخ.. وطار في طبقات الخيال، وصور تجلياته، حتى وصل به في آخر المطاف.. إلى جزيرة تخلو من الناس.. مقفرة من البشر.. لم تلوثها الأنفاس.. وحده.. تخيل.. تخيل إنك مكانه.. لتستشرف المكان.. لحظاته.. وتعرجات الزمان.. طاف به كالسندباد.. وهو يتمتم إليه.. ما أجملك يا مصطفى.. ما أعقلك يا بو محمود.. وما أجن الأنام..

   هنا.. همس أبو محمود في إذنه، تخيل إنك أنت السندباد، وسأجعلك رجلاً خرافياً، تعيش وحدك في جزيرة نائية، حين ذاك لن تكون حريتك مشكله، سوف تكون وحدك، لن يكون هناك صوت إلى جوار صوتك، ولا حرية تزاحم حريتك.. وحدك مثل الحصان الذي يجري في حلبة السباق منفرداً، فيطلع الأول لأنه لا يوجد هناك ثان.. لن تكون في حاجه إلى نظام، سوف تصنع قوانينك لحظة بلحظة، حسب مقتضيات مزاجك ورغبتك، ثم تلغيها متى تشاء.. سوف تخلع عرياناً ثم تتشمس بلا خجل، سوف ترفع عقيرتك بالصياح، أو بالنشيد، أو بالصراخ، بدون أن تشعر بالحرج.. فلا أحد هناك.. يطّل عليك، أو يسمعك.. لن تعرف شيئاً أسمه عيب.. ولماذا العيب؟.. وبالنسبة لمن وكل شئ منسوب لك وحدك..

   من الذي تخشاه وتحسب حسابه؟.. لا أحد.. لا واجبات عليك نحو أحد، ولا حقوق لك عند أحد.. مهما سرقت لن تكون سارقاً، ومهما أحرقت لن تكون معتدياً، ومهما فعلت لن يكون لأفعالك تعقيب، ولا مراجعة.. أنت وحدك.. وبعد هدوء طويل، يعلوا صوته.. لا ياصديقي.. لا.. لا أريد أن أكون سندباد.. لا أريد حياة الجزيرة المقفرة.. أفاق من حلمه.. كابوس، عالجه بالحال صديق الحال.. وقال له.. أذن الأمر يتغير تماماً حينما تكون واحداً من ألوف مثلك، تتعايشون معاً في مجتمع.. كل واحد حُر.. كل واحد يريد.. كل واحد يحلم.. كل واحد يرغب.. ولكن سوف تصبح حريتك محاصرة بحريات الآخرين.. ورغباتك محاصرة برغبات الآخرين.. وستجد نفسك في حرب لا خلاص منها إلا بعقد اتفاق.. وتأسيس شركة اجتماعية.. وتنظيم علاقات، وفرض واجبات، وإنشاء حقوق.. عيب، وأصول.. يليق، ولا يليق، وهذه أ. ب. الاشتراكية..

   وفي الوقت الذي استقرت أطرافه مجدداً، وتلبسها الهدوء، وأنصت في سكون.. أسترسل المصطفى المحمود.. إنها عملية القسمة الضرورية، لإنشاء مجتمع لا تنفع فيه حرية السندباد.. لأنها مثل حرية السائق الذي يخترق علامات المرور ولا يلتفت للإشارات، ويسير على هواه كأنه يسير في غابه، وهي حرية نهايتها الهلاك.. أما الحرية الوحيدة الممكنة فهي الحرية التي تتم بناء على تخطيط وتقسيم وتنظيم، شركة مساهمة يدخل فيها كل واحد بقسط، وفائض الأرباح يتحول إلى مزيد من الحرية للمجتمع.. إن كل ما يصنعه الغير تجده في خدمتك، وتحت تصرفك، أنت تجني أرباح الشركة المساهمة التي أسمها المجتمع، وتكسب أضعاف الأقساط البسيطة التي تدفعها، ومعها ثمار كل الأقساط التي دفعتها الإنسانية على مدى التاريخ.

   أنت وارث شرعي للحضارة والمدنية والعلم وكل ما يطالبك به المجتمع، في مقابل هذا الميراث العريض، هو قسط رمزي من حريتك.. ومع هذا فأنت تصرخ من هذا القيد البسيط، وتنسى هذه البحبوحة من الحرية، والمتعة التي تكسبها في مقابله.. لأنك سندباد.. مازلت تفكر بعقلية بدائية.. والرأسمالي الذي يرفض أن يساهم في بناء المجتمع بقسط من ثروته.. سندباد.. يفكر بعقلية الغابة، ويظن أنه يعيش وحده..

   والحل الوحيد الذي يلجأ إليه المجتمع ليرد هذه المخلوقات البدائية إلى عقولها.. أن يعاملها بالمثل.. أن يقطع عنها خدمات الخباز، والعامل، والفلاح، ويقطع عنه الماء، والكهرباء.. ويعيدها إلى الغابة لتعيش بين الثعابين، والوحوش، وتبيت وحيدة على شواطئ المستنقعات.. كما كان يفعل السندباد.. وتجرب حريته الخرافية.. وفي هذه الأثناء، لاحظ مصطفى محمود أن صديقه راح في نوم عميق.. قبل طلوع النور.. فأغلق الورّاق السطور..

طالب فداع الشريم
taleb1423@hotmail.com
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية المعرفة عند الفارابي

الإنسان المقذوف .. !

معادلة الأنا .. ألآخر